في العام 2015م، أصبحت أم محمد ملاذًا آمنًا لأطفال أقربائها وأبناء قريتها الذين فروا من نيران الحرب في مديرية نهم. بدأت بإيواء ثمانية منهم، وسرعان ما ازداد عددهم ليصل إلى عشرين طفلًا.
بدأت أم محمد، التي تبلغ من العمر 45 عامًا، بإيواء ثمانية أطفال من أقاربها في منزلها بصنعاء ومن ثم انضم إليهم أطفال من قريتها، حتى تضاعف عددهم إلى خمسة عشر ثم عشرين طفلًا. وأدى ازدياد وتيرة الحرب في المنطقة إلى إغلاق الطرق ومنع التقاء بعض العائلات بأطفالهم في صنعاء. ثلاثة أعوام من الاحتواء عاشها الأطفال النازحين في ظل دار أم محمد التي سعت بكل ما أوتيت من قوة لتلبية احتياجاتهم من الغذاء والدواء والتعليم والدعم النفس.، مؤمنة بضرورة مراعاة حقوق الأطفال وحمايتهم ورعايتهم. وقبل هذا كله، غريزة الأمومة هي التي دفعتها، فهي أم لأربعة أبناء، ناهيك عن مهنتها كتربوية يتملكها الشعور بالمسؤولية تجاه بناء الأجيال.
بذلت جهدي لألحاق
الأطفال بالمدارس.
..
أم محمد التربوية، فهي رئيسة تعليم الفتاة بمحافظة صنعاء مديرية نهم، استطاعت النجاة بمستقبل الأطفال النازحين من الضياع، فجعلت من تعليمهم أولوية رغم الحرب، وذلك من خلال بذلها كل إمكانياتها المادية والمعنوية لألحاقهم بالمدارس ومتابعة دروسهم منزليًا، قائلة: "بذلت جهدي لألحاق الأطفال بالمدارس، حتى أني اضطررت لنقلهم إلى مدارس خاصة بعد تعرض أحدهم للضرب من قبل المعلم في إحدى المدارس الحكومية، حتى لا تتأثر نفسيتهم".
يتصاعد رصيد عطاء أم محمد تجاه الأطفال من خلال الدعم النفسي، حيث أقامت لهم نشاط التشجير وكانوا يستمتعون بهذا النشاط وامتلك كل واحد شجرته الخاصة به.
تقول أم محمد أنه "مع كل موسم حصاد لأشجار الطماطم والقمح والذرة الشامية، كانت ترتسم الفرحة على وجوه الأطفال وهم يشاهدون أشجارهم التي زرعوها تزدهر وتثمر، ويستمتعون بلحظات الشواء للذرة الشامية، ولا تزال أشجار اللوز والرمان التي زرعوها تنمو وتزدهر حتى اليوم".
تحديات مهمة "لم الشمل"
في العام 2018م، تضاعفت مسؤولية أم محمد أمام إلحاح الأطفال واشتياقهم للعودة إلى عائلاتهم. رغم تحديات انقطاع الطرق وصعوبة العبور، استجابت لرغبتهم قائلة: "كان قرار رحلة العودة ولم شمل الأطفال مع أهلهم مغامرة، لكني خضت الرحلة واستأجرت سيارة وانطلقنا من صنعاء باتجاه مديرية نهم".
كانت رحلة شمل الأطفال
مع أهلهم مغامرة.
التحديات في مهمة لم شمل الأطفال بعائلاتهم ليست بالأمر السهل: "بعد إيقافنا في إحدى النقاط، طُلب مني أن أنزل اثنين من الأطفال الكبار والعودة إلى صنعاء ببقية الأطفال، لكني رفضت وبقيت في السيارة مع الأطفال من الساعة السابعة صباحًا حتى الثانية ظهرًا".
بعزيمة وإصرار واصلت أم محمد رحلة لم الشمل، فكان لها ما أرادت. بعد إجراء اتصالات عديدة من قبل المسؤول عن النقطة مع المعنيين، تم السماح لهم بالعبور ومواصلة الرحلة. ولكنه لم يكن التحدي الأخير، فواجهت نقطة عبور أخرى تعرقل سيرها. وكعادتها، استطاعت تجاوز الأمر بكل ثقة وحكمة، رافضة أن تعود خائبة. وبالفعل، تمكنت من لقاء الأطفال بعائلاتهم في نهم، مبرهنة بإنجازها أن المرأة قادرة على تحقيق الأمن والسلام.
وحدها مشاعر الفرح امتلكت أم محمد بعد نجاح مهمتها في لم الشمل، لكن سرعان ما تلاشت فرحتها بعد عودة واشتداد الصراعات في نهم، مما جعل حال الأطفال وعائلاتهم أسوأ، خاصة بعد النزوح الإجباري الذي فرض المعاناة والتشرد مرة أخرى على الأطفال في مخيمات غير مؤهلة للنزوح.
كانت رحلة شمل الأطفال
مع أهلهم مغامرة.
ظل لسان حال الأطفال النازحين يردد على مسامع أم محمد عبارتهم المتكررة: "نتمنى نرجع نعيش معك،" مستغيثين بها في كل مرة تتصل بهم هاتفيًا للاطمئنان على حالهم. لكن الحظ لم يبتسم إلا للطفلين يحيى وعمار الذين عادوا إلى دار أم محمد ليظلوا معها حتى اليوم، في حين واجه البقية مشكلات اجتماعية وأمنية منعتهم من الالتحاق بها.
تتحدث أم محمد بأسف عن حال الأطفال الذين يعيشون في وضع يرثى له وتتساءل: من يستطيع وضع حل لمعاناتهم ومن يعيد لهم الإحساس بالأمان والاستقرار؟ وأمام تساؤلاتها التي لا تجد لها إجابة شافية، ترد قائلة بأنها لن تتركهم وتعزم النية بالبحث لهم عن مخرج منقذ وتتوق لزيارة الأطفال وعائلاتهم في مخيمات النزوح لتفقد أحوالهم، آملة أن يسعفها تحسن الوضع المادي لتنطلق إلى المهمة.
وتقول أن الأطفال تتملكهم حالة من الذعر بعد الأمان الذي ظلهم في دارها، وتملك بعضهم حالة من العزلة والاكتئاب بسبب اليأس من وضعهم الحالي بعد الأمل والمستقبل الذي حاكت خيوطه مسبقًا بتعليمهم ودعمهم نفسيًا.
إرث نضالي من أجل تعليم وتمكين المرأة
"من جد وجد ومن زرع حصد"، هي حكمة تربت عليها أم محمد من والدها الذي بذل كل السبل لتعليمها هي وشقيقتها رغم الرفض المجتمعي آنذاك لتعليم الفتاة الريفية. تسرد لنا أم محمد مواقف عدة عالقة بذاكرتها تصف حماسة وتضحية والدها لتعليمها هي وشقيقتها. منها محاولته إيجاد سيارة تنقلها وشقيقتها في الصف الأول من المرحلة الثانوية إلى المديرية التي تبعد عن القرية، قائلة: "كان أبي يحرث أرض مالك السيارة مقابل نقلنا للمدرسة".
من جد وجد
ومن زرع حصد.
اكتسبت أم محمد من والدها مهارة الأعمال الزراعية التي كان يتشارك معها ويعتمد عليها في كثير من الأمور الزراعية. ويعتمد عليها في قراءة بصائر الأراضي والممتلكات الخاصة، إلى جانب اعتماده عليها في تعليمه الكتابة والقراءة.
كل منافذ الضوء التي صنعتها أم محمد للأطفال النازحين وما زالت تصنعها ليس بالأمر الجديد على التربوية التي صنعت بصمتها من الماضي بمساهمتها في تعليم الفتيات في مديرية نهم. ففي عام 2008م، بعد تخرجها من كلية التربية "علوم أحياء", خصصت جزء من منزل عائلتها لمحو الأمية والحاق الفتيات بالتعليم بمساعدة شقيقتها في الوقت الذي كان هذا غير مقبول مجتمعيًا. لكن لكونها مثلت نموذجًا إيجابيًا للكثير من الأسر، جعلهم يتقبلون عودة الفتيات للتعليم. إلى جانب مساهمتها في تأهيل الفتيات والنساء في مجالات تدريبية تنموية حققت لهن عائدًا اقتصاديًا من خلال مشاريع تدريبية في مجال الخياطة والحياكة والتطريز، وإحياء كل المهن التراثية المندثرة كدباغة الجلود والغزل والنسيج، واكتساب الخبرة في كيفية الاستفادة من خيرات الطبيعة والبيئة الزراعية.
وحينما تعود التربوية بذاكرتها إلى الماضي والحاضر، تشعر بأسى بسبب الاعتداء والعبث الذي طال منزل عائلتها ومشروعها التدريبي والتأهيلي للنساء في مديرية نهم. تطالب بضرورة وضع حد قانوني لمثل هذه الاعتداءات وبضرورة تشكيل لجنة وساطة لوقف هذا العبث، وإعادة الحقوق وضمان عدم المساس بالممتلكات ومشاريع الإعمار.
وتؤكد أن الحل لوقف العبث والدمار يكمن أيضًا في يد المرأة، فهي قادرة على قيادة السلام والأمن، وهي القادرة على لعب دورًا محوريًا في الحرب وفي صنع الإعمار والسلام، من خلال دور الأم داخل الأسرة وتربيتها في ترسيخ قيم السلام في أذهان أبنائها، والنهي عن أي اعتداء، سواء كان على شجرة أو حجر.
وبالنسبة لتطلعاتها وطموحاتها المستقبلية، تحلم بتحقيق واقع أفضل للأطفال حتى يعيشوا في أمان. وتكشف عن رغبتها في إعادة الإعمار والتنمية من خلال العودة لزراعة الأراضي المهجورة في منطقتها بنهم لتحقق تمكينًا اقتصاديًا كما في السابق، لكن ما يعيقها هو عدم وجود الدعم الكافي لإتمام مشروعها التنموي.