في عز شبابها، أقحمت الفتاة العشرينية راوية وليد في قضية أسرية، بعد مشاجرة مع أبناء عمومتها، قادتها في نهاية المطاف إلى السجن المركزي في تعز، لتقضي هناك تسعة أشهر من عمرها بين أربعة جدران، تسعة أشهر ستبقى عالقة في ذهنها حتى آخر عمرها؛ كمنطلق لحياة جديدة لم تكن في حسبانها وذويها، وهي التي دخلت السجن دون حكم قضائي، ومكثت فيه تسعة أشهر تترقب اليوم الذي سينتهي فيه وضعها الجديد، أربعة أعوام مضت على الحادثة، لكن ما ترتب عنها ما زال على قيد الألم.
سجنٌ وتمييز!
وجدت راوية نفسها في الإصلاحية المركزية الخاصة بالنساء، وهناك عاشت تفاصيل تؤيد إلى حد كبير ما كان يحدث لها من قبل باعتبارها من الفئة المهمشة.
"يعاملوننا كمهمشات في السجن بشكل مختلف، على مستوى الخدمات وحتى الزيارات، وعندما طلبنا توكيل محامٍ رفضوا ذلك، هذا بس لأننا مهمشات، بينما بقية السجينات يتم التعامل معهن خلافًا لنا تمامًا"، تحكي راوية عن ذلك بمرارة، وتضيف بلكنة تساؤلية: "هل نحن بلا أرواح؟ أو ما نستحق يتعاملوا معنا مثل البقية؟".
تساؤل فيه مضامين عدة، تلقي بظلالها على الفتاة التي تدخل السجن للمرة الأولى، وتواجه تبعات نفسية وجسدية وحتى قانونية، وبدلًا من أن تلقى معاملة المثل كمواطنة يمنية لها كافة الحقوق المكفولة، كرست الإصلاحية المركزية النظرة المجتمعية تجاه المهمشين، وأعادت إنتاجها داخل السجن، وتعاملت مع الفتاة بصورة تمييزية وطبقية، قد ترقى إلى حد التمييز العنصري!
يلاحق التهميش راوية إلى السجن، وفقًا لما ترويه زبيدة الوجيه، صحفية تابعت قضية وقصة راوية ونقلتها حينها للعلن فإن وضع الفتاة كان كارثيًا، ليس بسبب التهميش الذي تعرضت له وحسب، ولا بسبب التمييز الطبقي الذي لحقها إلى سجنها، بل لأن من يجب عليهم إنفاذ القانون والتحلي بروحه هم أنفسهم مارسوا ضدها هذا التهميش والتمييز، وكانوا يتغاضون عن ذلك باستمرار.
الوجيه ترى بأن راوية عانت كثيرًا، وحالها كان سيئًا طوال فترة السجن، فقد تعرضت للظلم بسجنها، وزيادة على ذلك مورس التهميش والتمييز ضدها، إنه ظلم مركب، كما تقول.
ظلمٌ مركّب
على المستوى القانوني يكفل القانون اليمني حق المواطنة للجميع دون تمييز، وكفلت مواده حقوقًا متساوية دون فرز مناطقي أو طبقي، لكن العادات والتقاليد الاجتماعية كرست التمييز الطبقي والمناطقي في عدد من المحافظات، وأبقت على ذلك كعرف اجتماعي لا مفر منه، وكانت طبقة المهمشين والذين يعملون في مهن كالجزارة والحلاقة والتجميل والنظافة والتحسين في مرمى المعاملات الدونية، أضيف إليهم ذوي الإعاقة باعتبارهم عاجزين ويشكلون عبئًا على المجتمع.
لا يوجد قانون يمني محدد يميز ضد المهمشين، لكن التمييز الاجتماعي الممنهج يمنعهم من الوصول إلى سبل الانتصاف من الاستغلال، حيث إنهم يواجهون تعصبًا ممنهجًا في النظام القضائي وداخل الحكومة المحلية والسلطات القبلية، وفقًا لورقة تحليلية صادرة من مركز صنعاء للدراسات في يونيو 2019. (1)
المحامية والحقوقية ابتهال الكوماني أجملت ردها على منصة أصوات نساء يمنيات بالقول: "بعد أن التزمت اليمن بموجب الاتفاقيات الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري حينها، جاء اعتبار كل نشر للأفكار القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وكل تحريض على التمييز العنصري وكل عمل من أعمال العنف أو تحريض على هذه الأعمال يرتكب ضد أي عرق أو أية جماعة من لون أو أصل إثني آخر، وكذلك كل مساعدة أو تمويل للنشاطات العنصرية، جريمة يعاقب عليها القانون".
ووفقًا للكوماني فإن مجموعة قواعد الحد الأدنى لمعاملة السجناء في القانون اليمني توضح في إحدى قواعدها لمعاملة السجناء أنه لا يجوز أن يكون هنالك تمييز في المعاملة بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو غير سياسي، أو المنشأ القومي، أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر.
وأضافت كوماني: في قانون تنظيم السجون في التسهيلات الممنوحة للمسجونين، مادة (30): تمنح للمسجونين إضافة إلى الحقوق الممنوحة لهم في هذا القانون التسهيلات التالية: مقابلة أسرته وذويه وأصدقائه.
وتواصل حديثها قائلة: لذلك يجب احترام الكرامة الإنسانية للسجين أيا كان جنسه أو عرقه أو لونه؛ فاحتجاز شخص لا يخول أحد انتهاك كرامته الإنسانية مهما ارتكب هذا الإنسان المحتجز من جرائم فهو مازال إنسان ويستوجب التعامل معه بإنسانية واحترام كرامته الإنسانية طالما لايزال داخل السجن.
وتوصلت دراسة أجراها صندوق الأمم المتحدة للسكان بالتعاون مع اتحاد نساء اليمن إلى أن النساء والفتيات المهمشات في اليمن تواجهن ضعفًا متزايدًا بسبب الافتقار إلى الضروريات الناجمة عن النزاع، والحماية القانونية، والتهميش الموجود مسبقًا. (2)
بينما تنص المادة (41) من الدستور اليمني على أن "المواطنون جميعهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة"، وتضمن المواد في الدستور من 41 إلى 61 حقوق جميع المواطنين في الدفاع القانوني، وحرية الحركة، والوصول إلى الضمان الاجتماعي.
وجع!
في الخامس من أبريل 2020، تعرض السجن المركزي في تعز لثلاث قذائف "هاون"، أصابت إحدى القذائف ساحة جناح النساء مما أدى إلى سقوط 8 قتلى، وجرح ٧ آخرين، يأتي هذا الهجوم عقب وعود بالإفراج عن عدد من النزيلات بعد تقديم ضمانات، وذلك ضمن إجراء اتخذته السلطات المحلية للحد من انتشار فيروس كورونا داخل السجون.
كانت راوية إحدى الإصابات السبع حيث تعرضت ساقها لإصابة مباشرة جراء شظية من شظايا القذيفة التي تسببت لاحقًا في بتر ساق راوية، وهي التي كانت على بعد يوم واحد من مغادرة السجن، وبانتظار موعد زفافها، لكن الفرحة المرتقبة تحولت إلى حزن دائم، والسجن الذي دخلته ظلمًا واستمر تسعة أشهر تحول هو الآخر إلى سجن أبدي، تبقى تبعاته النفسية وآثاره الجسدية عالقة في حياة الفتاة التي باتت رهينة معاناتها، بعد انتظار الفرج جاءها قدر آخر أفرج عنها إلى حال جديد؛ إذ أصبحت معاقة بساق واحدة، تلاحق يومياتها وما بقي من ذكريات تنسيها ما هي فيه.
تتذكر راوية ذلك اليوم بأسى بالغ، ولا تنساه بعد الإعاقة التي تعرضت لها، وستلازمها حتى النهاية، إنه سجن، ولكنه ليس بين أربعة جدران، هكذا تصفه، وتزيد: ما أقسى واقعنا؛ تهميش، وتمييز، وإعاقة، ووضع معيشي صعب.
الصورة لنشوان صادق
مراجع
مرجع2