لحظةٌ فارقة بإرادة نسائية!
سماح عملاق

تتعلّق النفس بما يعني لها الشغف، وبما يجعلها قريبة من الناس؛ فالحياة إضافة لكونها مجموعة تجارِب هي أيضًا ما قدّمته لمجتمعك ومحيطك وما صنعته من أثر جميل. 

"حينما أتذكر أنني أسهمتُ مرات عدّة في ارتفاع نسبة التماسك المجتمعي وأن لي يدًا في ابتسامة مجتمعٍ عانى التهميش أو الحرمان من الموارد فإنني أفخر بذاتي كثيرا."، هكذا تعبّر فائزة أحمد الزبيدي، عن فخرها بما قدّمته لمجتمعها حتى الآن في مديرية جبلة بمحافظة إب، شمالي اليمن.

لا يفارق وجدان فائزة وذاكرتها ذلك اليوم الذي زارت فيه قرية منوّر، إذ مثّلت لها مشاهد معاناة فتيات القرية صدمة كبيرة، كما تقول. من أجل المياه تقطع الفتيات قرابة الكيلومتر في جبل بعيد عبر طريق وعرة للوصول إلى عين خنب، حيث المنبع. ورغم ذلك فإن الفتيات اللاتي لا تتجاوز أعمارهن 12 عامًا لا يترددن عن الذَّهاب، حيث مصدر الحياة بالنسبة لهن ولأسرهن.

فايزة أحمد تنظر إلى قرية منوّر.

فائزة أحمد تنظر إلى قرية منوّر. (cc) منصة أصوات نساء يمنيات

من أجل المياه، تقطع الفتيات قرابة الكيلومتر في جبل بعيد، عبر طريق وعرة. 


عمل فائزة مع مؤسسة الشيماء للتمنية المحلية كمتطوعة، ونزولها الميداني إلى القرية وجلوسها مع الأهالي لمعرفة احتياجاتهم جعلها تكوّن صورة عن وضع القرية وأولوية احتياجاتها التي كان الماء على رأسها، لما يترتب عليه من آثار كبيرة كتسرب الفتيات من التعليم، وانتشار الأمراض المعدية بسبب الازدحام حول مصدر المياه، وتعرّض النساء لحوادث يفقدهن الأجنة في أرحامهن، وغيرها من الآثار التي دفعت فائزة وزملائها للتركيز على هذه المشكلة والعمل على حلها. 

هذه العين تحفها معاناة أخرى، إذ نشأ صراع بين الأهالي للحصول على المياه، فذوو الدخل المالي الجيد والمتمتعون بالنفوذ استطاعوا توصيل المياه إلى منازلهم، وبعضهم اشترى الحمير لنقل المياه - بينما يضطر الآخرون إلى حمل المياه بالطرق البدائية عبر تسخير النساء والفتيات لهذه المهمة الشاقة.

مثّل هذا دافعًا لفائزة التي قررت أن تبدأ مهمتها الإنسانية دون تردد: "يكفي هؤلاء المساكين معاناة وحرمان، سأتدخل وليكن ما كان"، ليساهم تدخلها رفقة زملائها في الوصول إلى حل أدى في نهاية المطاف إلى توصيل المياه للجميع، بعد جولات من التحاور وتقريب وجهات النظر بين الأهالي.

أودو • صورة ونص

 

من الاجتماعات الدورية  لمؤسسة الشيماء للتنمية مع أهالي قرية منور.  (cc) منصة أصوات نساء يمنيات

في طريقها إلى الحل لجأت فائزة إلى بعض الوسائل كجلسات التوعية حول التماسك المجتمعي، إضافة لبعض اللقاءات الخاصة مع أصحاب الشأن المتسببين بالضرر لإقناعهم بضرورة تغليب المصلحة العامة، وأتبعت ذلك بملفات تحوي ملخص الأضرار التي لحقت بالفتيات الصغار والنساء الحوامل من جرّاءِ نقلهن الماء مشيًا عبر طرق وعرة وبمسافات كبيرة.

وصلت هذه المحاولات إلى مرادها، ليتفق الجميع على "وثيقة صلح" قضت بتوزيع المياه بنفس الطريقة وذات الكمية بعدالة على الجميع دون تمييز. تكفلت مؤسسة الشيماء بمد المياه من العين إلى خزان في متناول الأهالي، حيث يمكنهم التعبئة في الوقت الذي يناسبهم بعيدًا عن عناء النقل والتنقّل.

لحظة فارقة وفرحة عارمة تشاركتها فائزة مع الفتيات اللواتي يتجشمن عناء نقل المياه، تقول فائزة: "أوقفتهنّ بلطف، وأخبرتهنّ بأنهن لسن مضطرات بعد اليوم للذهاب إلى العين البعيدة، وسوف يتوفر الماء قرب منازلهن، فتجمعن حولي للضحك واللعب والتصفيق مغنيات: "قابوه ماء، قابوه ماء" بمعنى "يوجد الماء".

 قابوه ماء، قابوه ماء.

"كم كنت سعيدة بسماع هتافات الأطفال البهيجة، وزغاريد النساء عند وصول المياه إلى الخزان، يا لها من لحظة"، تقول فائزة التي لم تتوقف عند هذا الحد بل واصلت مهمتها الإنسانية باقتدار.

تابعت فائزة قياس الأثر الذي وصل لحضور الفتيات إلى المدرسة، وعدم اضطرارهن للغياب أو التسرب مرة أخرى.

بالنسبة للأهالي كان المشروع خلاصًا لهم من معاناة متراكمة خصوصًا مع تفشي كوفيد 19: كان المشروع طوق نجاة لهم حيث خفف من الازدحام الذي كان سائدا عند تعبئة المياه سابقا.

 

توزيع الحقائب المدرسية من طرف مؤسسة الشيماء على تلميذات قرية منوّر. 
(cc) منصة أصوات نساء يمنيات
أودو • صورة ونص

رحلة إنسانية محفوفة بالألم ومصحوبة بالأمل، لكنها تكللت بالنجاح؛ لتتحوّل في حياة فائزة إلى ذكريات تعبّر عنها بابتسامة الرضا عما قامت به، ويختلجها شعور بالراحة كلما مر طيفها الذي تكن له مشاعر مختلفة تصفها بأنها الأكثر أثرًا في مسيرتها إلى اليوم.

"العمل التطوعي يشعرك بكيانك كإنسان، ويعالجك نفسيًا،" تقول فائزة. منذ إطلاق اليوم الدولي للتّطوع في الخامس من ديسمبر 1985، أولى المجتمع الدولي ومجتمعاتنا المحلية أهمية خاصة للأفكار والجمعيات الخيرية التطوعية، تعزيزًا لمكانة تلك القيمة العالمية لهذا اليوم.

عبر العمل التطوعي نُجدّد العهد مع الخير ومع ذرّات التسامح والمحبّة التي نحملها في قلوبنا. مساعدة الآخرين تطوعًا وحبًّا دون أجر أو مقابل، قد غير الكثير من الأشياء حول العالم، وساهم بلا شك في تعزيز العدالة الاجتماعية عبر العالم. 

شارك هذا البوست
مَعين: " السلام والطرق قضيتي المصيرية "