في ركن هادئ ببيتها الذي يعج بالحركة والزوار، تجلس امرأة ستينية مبتسمة ومرحبة بضيوفها. تنبعث من تقاسيم وجهها الحكمة والثقة، وهي تروي قصة ملهمة حافلة بالتحديات والإنجازات، فبالرغم من الصعوبات والمخاطر التي واجهتها، استطاعت الوقوف بجانب الرجال في عالم الأعمال، وأثبتت أن العمل الجاد والإصرار يمكن أن يحققان المستحيل.
"زليخة البحسني" أو أم سعيد كما تحب أن يناديها الناس، من أشهر تجار المواشي في المكلا عاصمة محافظة حضرموت، شرقي اليمن.
استطاعت دخول عالم الاستيراد والتصدير كأول امرأة في المكلا، وتمكنت من تحويل محنة الحرب الأهلية في الصومال -حيث ولدت ونشأت- وتركها لوظيفتها (الطب)، إلى عمل تجاري مزدهر تدير مزرعتين في شرق وغرب المكلا، وتاجرة مواشٍ ناجحة.
تحديات صنعت بدايتها
تروي لنا زليخة حين اندلاع الحرب الأهلية الصومالية في بداية التسعينيات من القرن الماضي، أنها اضطرت إلى ترك عملها كطبيبة نتيجة للتهديدات التي تطال الأطباء والتجار وذوي المكانة الاجتماعية، بالاختطاف أو القتل، لم تجد أمامها بدًّا من مغادرة الصومال برفقة زوجها والتوجه إلى البلد الذي جاء منه أجدادها "اليمن".
تقول زليخة أنها اختارت ممارسة التجارة عند قدومها لليمن لسببين أحدهما أن أجدادها الذين أتوا من حضرموت كانوا تجارًا في الصومال، والآخر أنها لم تعد تستطيع ممارسة الطب بسبب ضعف بصرها.
بدأت أولى خطوات العمل التجاري في العام 1994 من خلال التجارة في بعض المنتجات المحلية كالعسل والسمن واللبان، ثم أتبعت ذلك باستيراد المواشي من الصومال وبيعها في السوق المحلي، حيث بدأت بعشرات المواشي، لكنها تمتلك اليوم آلاف الأغنام والأبقار والجمال، ويغطي نشاطها التجاري مناطق مختلفة من محافظة حضرموت.
تتميز المرأة الستينية بالقدرة على التعامل مع التحديات الصعبة بشكل مدهش، فهي تمتلك خبرة فريدة وتفهم عمق أسرار عالم التجارة الدولية. تتحدث بثقة عن الأسواق والمنتجات، وتشارك القصص الملهمة لحيواناتها وكيفية استثمارها في تطوير مزارعها وتحسين جودة المنتجات.
واجهت زليخة التحفظات والتحديات المجتمعية التي تعتبر المجال التجاري محصورًا على الرجال، ولم تستسلم للمعتقدات السائدة، ولم تدع القيود تحد من عزيمتها.
بدلاً من ذلك، استخدمت هذه التحفظات كحافز لإثبات قدراتها وقوتها، في بداية عملها واجهتها مشكلات القرصنة في الصومال، لكن ذلك لم يثنها عن هدفها، وواصلت العمل والاجتهاد حتى صارت اليوم تمتلك عضوية VIP لدى غرفة تجارة وصناعة حضرموت، وتمتلك "مؤسسة أم سعيد" لبيع وتجارة المواشي، كما أن لديها مجموعة سفن تقوم بتأجيرها للتجار من الرجال لجلب بضائعهم عليها من استيراد بنزين وسيارات ومواد غذائية.
تشدد زليخة على أن الصدق والأمانة في التعامل هما أساس النجاح في العمل التجاري، وتؤكد أن النساء الآن قادرات على الدخول لهذا المضمار لما يتحلين به من صبر وقوة تحمّل، كما أنهن أصبحن متعلمات ويصعب خداعهن.
خطوات ناعمة
على نفس الدرب، متأثرة بتجربة زليخة، سارت العشرينية منى باقطيّان إلى عالم ريادة الأعمال، فبعد عامين فقط من تخرجها استطاعت أن تؤسس شركتها الخاصة "شركة المنى للتجارة والخدمات المحدودة"، إذ كانت تعمل أثناء دراستها الجامعية وهو الأمر الذي أكسبها خبرة وعلاقات استطاعت من خلالهما أن تفتتح مشروعها الخاص.
وعن الصعوبات التي واجهتها تقول منى: "أن تفتتح فتاة شابة مشروعًا خاصًا كمكتب للخدمات العامة هو صعوبة بحد ذاته في مجتمع ذكوري محتكر لمجال الأعمال التجارية. إذ تحتاج خطوة كهذه إلى جرأة كبيرة".
وتؤكد منى على أن هناك تحولات شهدها المجتمع اليمني في السنوات الأخيرة جعلته يتقبل دخول المرأة لعالم ريادة الأعمال والتجارة ومنافستها للرجل، وتعزو ذلك إلى الأوضاع الاقتصادية التي طالت أغلبية المواطنين بعد الحرب، التي أسهمت بشكل كبير في دخول المرأة لسوق العمل، إضافة إلى اتساع نسبة التعليم بين النساء.
وفي إحصائية جديدة لمكتب الصناعة والتجارة بمحافظة حضرموت يبلغ عدد النساء اللواتي يحملن سجلًا تجاريًا 210 امرأة، بينما من يحملن عضوية الغرفة التجارية أكثر بكثير، وترجع "نور المرشدي" مديرة دائرة المرأة بمكتب الصناعة والتجارة ذلك إلى تغيرات في الثقافة والتوجهات الاجتماعية، حيث يُعترف بدور المرأة في العمل والاقتصاد بشكل أكبر، إضافة إلى تزايد مستوى التعليم وتوافر فرص التدريب المهني الذي يمنحهن المهارات والقدرات اللازمة للقيام بمشاريع خاصة واقتحام القطاع التجاري بشكل عام.
تقول نور: "أصبح لدينا نساء يعملن في استيراد المواد الكهربائية وفي التصدير وفي المقاولات، ونحن في مكتب الصناعة والتجارة نقدم لهن الدعم اللوجستي فقط".
معاناة مضاعفة
تعاني أغلب سيدات الأعمال اليمنيات من أعباء الرسوم المفروضة عليهن، وعدم وجود تسهيلات حكومية للمرأة أسوة بنظيراتها في الدول العربية الأخرى، حيث تتمتع النساء بتسهيلات من قبل حكوماتهن، كإلغاء أي رسوم جمركية أو ضرائب وجبايات مما يدفع بالمشاريع النسوية للمنافسة ويعطيها القدرة على الاستمرار.
تقترح فائزة باني، وهي سيدة أعمال تملك مشغل خياطة، ورئيسة ملتقى سيدات أعمال حضرموت: أن المشاريع النسوية التي تشغّل عمالة يجب أن تعفى من الضرائب وذلك تشجيعًا لسيدات الأعمال لمواصلة مشاريعهن ولضمان نجاحها.
وتضيف باني: "نتواصل مع سيدات الأعمال من خارج اليمن، فنجد أنهن يمتلكن تسهيلات من قبل حكومات بلدانهن خصوصًا النساء اللواتي يصدرن منتجات محلية".
وتعمل فائزة في تصدير المنتجات المحلية لمشغلها من ملبوسات إلى دول عربية مجاورة كسلطنة عمان والسعودية، واستطاعت أثناء جائحة كورونا أن تلتقط الخيط وتبدأ مشروعها في المشغل بعمل الكمامات و"الزي الوقائي" الذي استخدمته الطواقم الطبية في المستشفيات أثناء الجائحة.
بينما ترى "سميحة حبشي" مدربة في ريادة الأعمال لدى العديد من المنظمات المحلية أن أهم الصعوبات التي تواجه سيدات الأعمال في اليمن هو قلة وجود بنوك تمويل وإقراض ميسرة، تستطيع من خلالها المرأة تحسين منتجها ليكون صالحًا للتصدير حيث تعاني أغلب السيدات المنتجات من عدم وجود إمكانيات لتحسين منتجها من احتضان واستشارات لأنها غير قادرة على الدفع، فحتى وإن حصلت على قرض ميسر من أحد البنوك أو الصناديق التمويلية فإنه غالبًا ما يكون بالعملة المحلية، وواحدة من أكثر مشاكل سيدات الأعمال بل حتى التجار الرجال هو تذبذب سعر الصرف".
وعلى ذلك فإن دور المرأة في التجارة ليس مجرد تمكين اقتصادي، بل هو أيضًا تعزيز للتنوع وتوسيع لآفاق النجاح وإسقاط لهياكل العنف المجتمعية والثقافية.
لذا، فإن تعزيز تمثيل المرأة وتمكينها في مجال التجارة هو استثمار حكيم لبناء مجتمع أكثر تقدمًا وازدهارا.